السودان وروسيا- شراكة استراتيجية في زمن الحرب ومخاطر جيوسياسية

المؤلف: د. ياسر يوسف إبراهيم10.25.2025
السودان وروسيا- شراكة استراتيجية في زمن الحرب ومخاطر جيوسياسية

في عام 2017، وبعد زيارة الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى روسيا، والتي كانت بمثابة فاتحة لدخول مجموعة فاغنر إلى السودان ودول أفريقيا الوسطى، اجتمع وفد روسي رفيع المستوى برئاسة جنرال روسي كبير مع مسؤولين من الحكومة السودانية في مقر منظومة الصناعات الدفاعية السودانية. وقد أكد الجنرال الروسي على أن روسيا لا تسعى لشراء الحلفاء، بل لبناء شراكات استراتيجية قوية. وخلال الاجتماع، تم التطرق إلى أربع اتفاقيات تعاون محورية بين البلدين، وهي: اتفاقية التعاون العسكري، اتفاقية تطوير قدرات الجيش السوداني، اتفاقية استخدام الموانئ والمراسي السودانية من قبل السفن الروسية، وأخيرًا اتفاقية إنشاء نقطة دعم لوجستي على سواحل البحر الأحمر.

مع مرور أكثر من عام على اندلاع الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وفي ظل المساعي المتزايدة لتوسيع نطاق التعاون بين السودان وروسيا، تتبادر إلى الأذهان أسئلة جوهرية حول مدى نجاح هذا التقارب وتجاوزه للعقبات والمخاطر المحتملة.

الزيارة التي قام بها المبعوث الروسي إلى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، إلى السودان في شهر مايو/أيار الماضي، فتحت آفاقًا جديدة لتسريع وتيرة التعاون الثنائي. وفي هذا السياق، كشف الفريق ياسر العطا، مساعد القائد العام للجيش السوداني، عن وجود اتفاق بين البلدين يقضي بتزويد روسيا للسودان بالذخائر والأسلحة الضرورية، مقابل منح روسيا حق إقامة محطة إمداد وتموين على البحر الأحمر.

تتجلى أهمية هذا الاتفاق في جوانب عديدة، إذ يمثل تحولًا استراتيجيًا للجيش السوداني من حالة التردد التي لازمته في التعامل مع موسكو منذ سقوط النظام السابق قبل خمس سنوات، إلى تبني نهج التعاون المفتوح والشامل. علاوة على ذلك، ساهم هذا الاتفاق في توضيح موقف روسيا الداعم والمساند لمجلس السيادة، واعترافها بشرعيته الكاملة، وإعلان دعمها للجيش السوداني، مما يعني تخليها عن أي تعاون محتمل مع قوات الدعم السريع عبر مجموعة فاغنر.

مما لا شك فيه أن هناك جملة من العوامل التي شجعت الجيش السوداني على اتخاذ هذه الخطوة الجريئة، وفي مقدمتها التطورات الميدانية المتسارعة على أرض الواقع، والحاجة الماسة إلى حليف عسكري وسياسي قوي يدعم مواقف الجيش ويساند قضاياه.

منذ سقوط النظام السابق، حرص قادة الجيش السوداني على الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع الولايات المتحدة الأميركية، وتأملوا في بناء علاقات مثمرة وبناءة معها. بل إن الجيش قام بتجميد العمل باتفاقية القاعدة الروسية على البحر الأحمر، والتي كان قد تم التوقيع عليها في عام 2017. وبعد مصادقة السلطات الروسية على الاتفاقية، صرح رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بأن لديه ملاحظات وتحفظات بشأن اتفاق القاعدة الروسية في السودان. وفي أعقاب ذلك، استقبل البرهان السفير أندرو يانغ، نائب قائد قوات أفريكوم الأفريقية، واعتُبرت هذه الزيارة بمثابة جزء من الترتيبات المتعلقة بتجميد الاتفاق.

بعد مرور عام على اندلاع الحرب، ربما شعر قادة الجيش بنوع من الإحباط وخيبة الأمل تجاه الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تقدم شيئًا ملموسًا للسودان طوال السنوات التي أعقبت سقوط النظام السابق. بل ظل موقفها يتسم بالغموض والارتباك والتناقضات.

كما أن طول أمد الحرب دفع بالجيش إلى البحث عن خيارات بديلة لتوفير المؤن والذخائر اللازمة، خاصة بعد استهداف منظومة الصناعات الدفاعية من قبل قوات الدعم السريع، وتأثر جانب كبير من عمليات التصنيع والإنتاج. وفي ظل هذه الظروف، لا توجد دولة أخرى قادرة على الاستجابة لتلك المطالب الملحة والفورية مثل روسيا. فالجدير بالذكر أن السودان يعتبر ثاني أكبر مستورد للأسلحة الروسية منذ عام 2000، بالإضافة إلى أن منظومة التصنيع العسكري في الجيش السوداني تعتمد بشكل كامل على الأعيرة الشرقية، وذلك بسبب الحصار الأميركي والغربي الطويل الذي فرض على السودان.

علاوة على ذلك، فإن القوات الجوية السودانية تعتمد بشكل أساسي على التعاون مع روسيا والصين وأوكرانيا. أما السبب الآخر لتوطيد العلاقات مع روسيا، فهو استعداد روسيا نفسها لاستئناف التعاون مع السودان، نظرًا لما يتمتع به من أهمية استراتيجية بالغة الأهمية لتنفيذ خططها المتعلقة بالتوسع في أفريقيا، وذلك مع تنامي وجودها العسكري في القارة. ووفقًا لتقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فقد استوردت أفريقيا خلال الفترة ما بين عامي 2015 و2019 ما يقارب 49% من معداتها العسكرية من روسيا، وكان السودان بمثابة بوابتها الرئيسية للتغلغل في أفريقيا الوسطى، ولاحقًا النيجر وغيرها من الدول.

دوافع التقارب ومقتضياته

بالنسبة للسودان، الذي يخوض حربًا شرسة وغير مسبوقة مع قوات الدعم السريع، فإن الجيش في أمس الحاجة إلى إمدادات مستمرة من الذخائر والمؤن الحربية، وخاصة تلك المتعلقة بالقوات الجوية. يمتلك السودان حوالي 13 طائرة قتالية من طراز ميغ روسية الصنع، وحوالي 20 طائرة هجومية من طراز سوخوي 24 و35 الروسية، بالإضافة إلى عدد كبير من طائرات الهليكوبتر الهجومية والناقلة. ولا شك أن هذا الأسطول الجوي يحتاج إلى التطوير والصيانة وتوفير قطع الغيار والذخائر اللازمة.

كما أن السودان بحاجة ماسة إلى حليف قوي ومؤثر في المحافل الدولية، في ظل الانحياز الواضح من جانب الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين والإقليميين لمجموعة (تقدم) المناصرة لقوات الدعم السريع والتي يرأسها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك.

لطالما كانت موسكو على خلاف دائم مع المجموعة الغربية في أروقة مجلس الأمن، وآخرها في شهر مارس/آذار الماضي، حين امتنعت عن التصويت على مشروع قرار قدمته بريطانيا يدعو الأطراف المتحاربة في السودان إلى وقف إطلاق النار خلال شهر رمضان. وصرحت نائبة مبعوث روسيا لدى مجلس الأمن، آنا إيفستغنيفا، بأن الأطراف السودانية هي التي تتحمل المسؤولية الرئيسية عن الوضع في بلادها، وهي التي يجب أن تقرر مستقبلها، وأن مهمة ممثلي المجتمع الدولي، بمن فيهم أعضاء مجلس الأمن، هي تيسير ذلك، وعدم فرض قواعدهم ومبادئهم على الدول ذات السيادة. وبالإضافة إلى ذلك، يأمل السودان في أن تساهم روسيا في تغيير مواقف بعض القوى الإقليمية الداعمة لقوات الدعم السريع.

أما بالنسبة لروسيا، فإنها ترى في السودان مدخلًا حيويًا لتنفيذ استراتيجيتها التوسعية في أفريقيا، باعتباره من كبار المشترين للأسلحة الروسية، وأنه كان البوابة التي قادت روسيا إلى أفريقيا الوسطى قبل عدة سنوات. ولكن النقطة الأساسية والأكثر أهمية هي الحصول على موطئ قدم على البحر الأحمر.

لماذا البحر الأحمر؟

في شهر مارس/آذار الماضي، وخلال جلسة استماع في الكونغرس الأميركي، صرح الجنرال لانغلي، قائد القوات الأميركية في أفريقيا، بأن أكبر تحد يواجه الاستراتيجية الأميركية في السودان يتمثل في محاولة روسيا إيجاد موطئ قدم لها على البحر الأحمر. لطالما كان الاهتمام الأبرز لأميركا في حرب السودان هو منع روسيا من الاقتراب من البحر الأحمر، الذي يشكل ركيزة أساسية في استراتيجيتها تجاه أفريقيا لمكافحة الإرهاب والقرصنة. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر البحر الأحمر ممرًا استراتيجيًا للسفن التجارية، إذ يعبره ما يقدر بأكثر من عشرين ألف سفينة تجارية سنويًا، وهو الطريق الذي ينقل نفط الخليج العربي وإيران إلى الأسواق العالمية. وهذا هو الهدف الذي تسعى إليه الدول الأوروبية، التي تنقل 60% من احتياجاتها النفطية عبر هذا الممر المائي الحيوي.

وبحسب استراتيجية الأمن القومي الروسي التي أقرها الرئيس بوتين في عام 2016، تعتبر منطقة البحر الأحمر ذات أولوية قصوى، لأن الوجود الروسي فيها يساهم في فك الطوق المفروض عليها، خاصة بعد العقوبات الغربية المشددة التي فرضت عليها مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. كما أن هذا الوجود سيعمل على مساعدة وتسهيل عمل الأسطول البحري الروسي المتواجد في المحيط الهندي، وتأمين صادراتها النفطية التي بلغت حوالي 34% عبر هذا الممر المائي الحيوي. ولهذه الأسباب، نصت الاستراتيجية الروسية بوضوح على أن بناء القواعد العسكرية واللوجستية يمثل هدفًا محوريًا تسعى إليه موسكو.

مخاطر التقارب

تأتي ردة الفعل المتوقعة من جانب الولايات المتحدة الأميركية تجاه الطرفين في مقدمة المخاطر المحتملة. ويبدو أن الطرفين على دراية بهذا التعقيد. فقد كتب المحلل العسكري ميخائيل خوداريونوك أن السلطات السودانية ستتعرض لضغوط هائلة من واشنطن، ولا يستبعد أن يبذل البيت الأبيض قصارى جهده لإفشال هذا الاتفاق. وتنظر روسيا، بحسب استراتيجيتها للأمن القومي، إلى الولايات المتحدة على أنها تمثل رأس الحربة في المخاطر التي تهدد أمنها القومي، ولذلك فهي تتصرف في تحركاتها الدولية والإقليمية بناء على هذا التصور الذي تعززت قناعاتها به بعد الحرب الروسية الأوكرانية.

أما السودان، فهو يدرك أن فكرة الوجود الروسي تعود بجذورها إلى طلب الحماية الشهير الذي تقدم به الرئيس السابق عمر البشير للحكومة الروسية ضد التهديدات الأميركية. ومع أن قادة الجيش حاولوا مرارًا وتكرارًا توضيح أن التفاهمات السودانية الروسية حول البحر الأحمر لا تستهدف أحدًا، إلا أنه يبقى من الصعوبة بمكان أن تتفهم القوى الدولية، والإقليمية على حد سواء، دوافع السودان بعيدًا عن صراع النفوذ المتنامي حول المنطقة.

وقد جاء رد الفعل الأميركي مهددًا. ففي تصريحات صحفية، قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية إن استمرار النظام العسكري في السودان في تنفيذ اتفاق بورتسودان سيتعارض مع مصالح السودان على المدى الطويل. ولم يتوقف التهديد عند هذا الحد، بل أضاف المتحدث الأميركي أن التعاون مع موسكو سيزيد من عزلة النظام العسكري في السودان، ويعمق الصراع الحالي، ويخاطر بمزيد من زعزعة الاستقرار الإقليمي.

التحدي الثاني يتمثل في حساسية موقف السودان الذي تربطه علاقات وثيقة مع أوكرانيا، في ظل التقارير الإعلامية الغربية المتواترة التي تتحدث عن دور مزعوم لأوكرانيا في الحرب الحالية في السودان. وفي شهر أبريل/نيسان الماضي، تسلم وزير الخارجية السوداني أوراق اعتماد السفير ميكولا ناهورني سفيرًا لأوكرانيا. والانتباه الواجب هنا هو العمل الحثيث على ألا يتحول السودان إلى ساحة حرب بالوكالة تستغلها القوى الدولية المناوئة لروسيا بهدف الاستنزاف وتوسيع نطاق المواجهة معها.

أما التحدي الثالث والأخير، فيتعلق بالجانب الاقتصادي. ففي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهها السودان، والتي تتطلب دعمًا عاجلًا، قد لا تكون روسيا مهيأة لتقديم هذا الدعم نظرًا للتكاليف الباهظة التي تتكبدها في الحرب في أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، فإن الاتفاقيات الخاصة بالتعدين والنفط قد تستغرق وقتًا طويلًا حتى تبدأ في إثمار نتائج ملموسة. ومن المعلوم أن الجانب السوداني لا يملك هذا الوقت، وهو يخوض معركة وجودية ضد قوات الدعم السريع.

ولجميع هذه الأسباب، فإن الجانب السوداني في حاجة ماسة إلى تعزيز موقفه مع دول أخرى مثل الصين، إيران، قطر وتركيا، من أجل إكمال منظومة التعاون العسكري والاقتصادي، فكل هذه الدول تربطها مصالح حيوية وحقيقية مع السودان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة